المنظور السياسي لمشروع يد تبني ويد تحمي أي دولة نبنيها.. وأية مؤسسات نحميها؟

حين أعلن الرئيس الشهيد صالح الصماد عن مشروع بناء الدولة.. يد تبني ويد تحمي، وتعهد من بعده الرئيس مهدي المشاط على المضي في إنجاز المشروع وتحقيقه على أرض الواقع، تعددت الرؤى والاجتهادات بشأن أولويات إعادة البناء، فقائل يفضل البدء بمحاربة الفساد المعشعش في بنية مؤسسات الدولة وأجهزتها، وآخر يرى أن الأولوية للحل الاقتصادي، وتخفيف معاناة موظفي الدولة حتى يتمكنوا من إنجاز المهام الملقاة على عاتقهم في ظل الظروف العصيبة والاستثنائية، وثالث يقترح معالجات إدارية تحد من التضخم الوظيفي للقطاعين العام والمختلط، فيما يقترح البعض رؤية تشمل كلما سبق، في إطار تحقيق الهدف أو الغاية الرئيسة للمشروع.

إلا أن النقاشات حتى الآن لم تقترب من الجانب السياسي لمشروع بناء الدولة، وبرغم اقتناع الجميع بأهمية وضرورة توافر الإرادة السياسية لمشروع كبير وطموح كهذا، إلا أن البعض يحصرها في إرادة رئيس الجمهورية وعزمه على تنفيذ المشروع،  متغافلين عن أهمية توافر بقية الشروط الموضوعية لبناء الدولة المتعلقة بحسم الرؤية السياسية لشكل وهوية الدولة نفسها، ومتجاهلين في نفس الوقت أن اليمن التي تمر بمرحلة انتقالية منذ 2011م، بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يخضع لتوافق وطني موسع، ولاستفتاء شعبي يشمل كل الأرض اليمنية إن أمكن ذلك.

فوق ذلك- وهذا هو الأهم- فإن الرؤية السياسية لبناء الدولة في المشروع المنتظر، من شأنها الإجابة والرد الحاسم على المتشككين في رؤية أنصار الله للدولة، خاصة أن ثمة لغط كبير بشأن مستقبل النظام الجمهوري، في ظل الاتهامات والإشاعات المتوالية التي ينسجها الخصوم السياسيين لأنصار الله، وأعداء الشعب والوطن من المرتزقة وعيال العاصفة.

من هذا المنطلق يتعين على الرئيس المشاط وزملائه في المجلس السياسي الأعلى وضع النقاط على الحروف، وتوضيح الرؤية السياسية لبناء الدولة، بما يساعد على حشد طاقات المجتمع الحكومية والشعبية وراء مشروع ” يد تحمي ويد تبني”.

الشروط الموضوعـية لبناء الدولة

  • الرؤية السياسية

من نافل القول أن بناء الدولة أو إعادة بنائها، ليس مشروعا جديدا، فقد سبق أن طرحت أحزاب اللقاء المشترك قبل 2011م رؤية شاملة للإصلاح السياسي والدستوري. وفي مؤتمر الحوار الوطني 2013م، تشكل فريق خاص تحت مسمى “بناء الدولة”، وخرج بقرارات مهمة ذات علاقة بهوية الدولة وشكلها السياسي ونظامها الانتخابي.

وحين شن التحالف السعودي عدوانه الغاشم على بلادنا، كانت مسودة الدستور الجديد على طاولة الفرقاء السياسيين، الذين بدوا متوافقين على معظم مواد دستور، عدا الخلاف الرئيسي على مسألة الأقاليم. وهذا يعني أن الأحزاب قد حسمت (العقد الاجتماعي الجديد) والرؤية السياسية لبناء (( دولة جمهورية اتحادية تقوم على النظام الديمقراطي بركنيه الرئيسين: التعددية السياسية والحزبية، والتداول السلمي للسلطة)).

وإذا كانت مخرجات الحوار الوطني قد حسمت مسألة النظام الانتخابي حين توافقت المكونات على “القائمة النسبية”، فإنها قد تراجعت عن “النظام البرلماني” لصالح “النظام الرئاسي”، تحت مبرر أنه الأصلح للدولة الاتحادية الفيدرالية.

  • الإرادة السياسية

لا يمكن لمشروع كبير واستراتيجي أن يرى النور إذا لم تقف خلفه إرادة سياسية مثابرة، ترعى المشروع في مختلف مراحله، وتمنحه الأولوية على ما عداه. وحسب علمنا فإن الرئيس المشاط ورفاقه في المجلس السياسي الأعلى عازمين النية على إنجاز مشروع بناء الدولة مهما كانت الصعوبات والتحديات. بيد أن توفر الإرادة السياسية لدى أعلى الهرم في السلطة، لن يكون وحده كافياً، إذ لا بد لمشروع كهذا من رافعة سياسية وطنية تعمل بكل جهد على تنفيذ مضامينه وترجمتها ميدانيا.

  • الرافعة السياسية

هذه الرافعة السياسية قد تكون حزبا أو مكونا سياسيا أو كتلة تاريخية ( ائتلاف وطني عريض)، تكون شريكة في صياغة المشروع، وفي تنفيذه، وفي تحمل المسئوليات الناجمة عن تطبيقه، وما إلى ذلك. ولا شك أن أنصار الله والأحزاب السياسية المناهضة للعدوان، بإمكانها تشكيل الكتلة التاريخية المنشودة، مع ضرورة الفهم بأن الشراكة السياسية في إعادة البناء لا تعني تقاسم السلطة بالضرورة، كما لا تعني استئثار طرف بذاته على أهم مفاصل الدولة.. إنها الشراكة التي تمنح الأولوية للكفاءات الوطنية حيثما وجدت، حتى إذا حان وقت التنافس الانتخابي، بالاحتكام إلى الإرادة الشعبية، وجد الحزب الذي  وصل إلى السلطة نفسه محاصرا بضمانات دستورية وقانونية ( وعملانية) تحد من توغله في الدولة واحتكار أعضائه للوظيفة العامة التي يجب أن تكون حقا لكل مواطن ومواطنة، وفقا لمبادئ الجدارة والأهلية وتكافؤ الفرص.

  • سلطة ومعارضة

لا معنى للديمقراطية إذا لم تصل حد تداول السلطة سلميا. وهذا يعني أن التعددية السياسية لا بد أن تفرز حزبا أو ائتلافا حزبيا حاكما، بينما تقوم بقية الأحزاب بدور المعارضة إلى أن تحقق الأغلبية السياسية في العملية الانتخابية، وهكذا دواليك.

من هذا المنطلق يتعين إعادة النظر في المنظومة الحزبية التي تحولت إلى (ظاهرة دكاكينية)، وإعمال قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية على كل المكونات، مع الأخذ بعين الاعتبار مخرجات الحوار الوطني فيما يتعلق بتسجيل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني.

  • الشراكة الوطنية في السلطة والثروة

بسبب فشل التجربة الديمقراطية، نتيجة استئثار حزب بعينه بالسلطة، طرحت أحزاب المعارضة مفهوم الشراكة الوطنية في السلطة والثروة. وقد أكدت على هذا المفهوم مخرجات الحوار الوطني واتفاقية السلم والشراكة، ما جعل الأحزاب تنظر إلى الشراكة من زاوية تقاسم السلطة والمحاصصة في الوظيفة العامة.

فإذا كانت هذه المحاصصة مقبولة على نحو مؤقت، ولمرحلة انتقالية محددة، فإن الشراكة الوطنية بمفهومها الحقيقي تعني توفير بيئة سليمة وسلمية للتنافس الحزبي على السلطة على النحو الذي ذكرناه. وبالموازاة مع ذلك تتطلب الشراكة الوطنية عدم تركيز السلطة، والتحول إلى نظام لا مركزي يمنح المحافظات ( أو الأقاليم ) وما دونهما، صلاحيات واسعة في إدارة شئونها المحلية والاستفادة المباشرة من إيراداتها وإمكاناتها، وفقا لقانون جديد ينظم طبيعة العلاقة السياسية والإدارية بين المركز والسلطة المحلية.

التحديات التي تواجه بناء الدولة

بالإضافة إلى الشروط الموضوعية سابقة الذكر، يعتور مشروع بناء الدولة جملة من التحديات، التي لا يمكن القفز عليها. وما لم يتضمن المشروع حلا لهذه المشكلات والتحديات، فإنه يحكم على نفسه وعلى القائمين عليه بالفشل سلفاً. ومن هذه التحديات:-

  • الاعـتراف الدولي والحل السياسي

لا يزال العالم يتعامل مع أنصار الله وشركائهم كجماعة انقلابية، وحتى الدول الصديقة المتعاطفة، فإنها لا تعترف بالمجلس السياسي الأعلى ولا بحكومة الإنقاذ، ومن يتعامل مع صنعاء من دول وهيئات ومنظمات أممية فمن باب التعاطي الاضطراري مع (سلطة الأمر الواقع)..ومجازف من يقول أن بالإمكان بناء الدولة وتحديث مؤسساتها في ظل العزلة الدولية.

هذه الحقيقة المرة تقود إلى الحديث عن حتمية الحل السياسي ( وضرورة توافق أطراف الصراع الداخلي على إيقاف الحرب، وتشكيل حكومة تحظى بالاعتراف والدعم الدولي).

  • الحصار والأزمة الاقتصادية

مع استمرار العدوان والحصار الدولي على بلادنا، تبرز التداعيات الاقتصادية والإنسانية، وفي مقدمها توقف مرتبات موظفي الدولة. وحين نتكلم عن إصلاحات إدارية تطول المؤسسات والأجهزة الحكومية، فلا بد من رفدها برؤية عملية لمعالجة مشكلة توقف مرتبات الموظفين، واجتراح الحلول التي تضع حدا لمعاناة الموظفين والأسر التي يعولونها.

  • الدولة العميقة (عقيمة ومعيقة)

رغم الهزات العنيفة التي تعرضت لها مؤسسات الدولة إلا أن لوبي الفساد المالي والإداري لا يزال يفرض رؤيته (أو ثقافته) على إدارة الشأن العام. وليس جديدا القول أن الدولة العميقة ترفض تجديد ذاتها، وتقاوم في نفس الوقت أية محاولات للتغيير من خارجها، فهي عقيمة ومعيقة في ذات الوقت، لذا من المهم أن يتنبه القائمون على تنفيذ عملية التصحيح الإداري لهذه النوعية من الكوادر والإدارات والأساليب.

  • الجيش واللجان الشعبية

إعادة بناء القوات المسلحة والأجهزة الأمنية على أسس وطنية وعلمية مسألة متوافق عليها ضمن مخرجات الحوار الوطني. وفي ظل العدوان برز الدور المحوري للجان الشعبية في الجبهات وفي حماية المؤسسات والأمن العام، الأمر الذي يقتضي دمج اللجان الشعبية وتأهيلها وتدريبها لكي تقوم بالدور المناط بها في إطار العمل المؤسسي لوزارتي الدفاع والداخلية، مع ضرورة مراعاة فصل الجيش والأمن عن الانتماءات والولاءات الحزبية أو المناطقية أو المذهبية.

  • موقع المشرفين واللجان الثورية

برغم التراجع الملحوظ لدور اللجان الثورية في مؤسسات الدولة، إلا أن مشرفي أنصار الله في المحافظات والمديريات لا زالوا يلعبون دورا ملموسا في تسيير العمل الإداري بالأجهزة الحكومية، ما يتطلب ضرورة الفصل بين الدور المجتمعي الذي يمكن أن يلعبه (المشرفين والمسئولين الاجتماعيين والثقافيين وغيرهم) وبين دورهم الإداري داخل مؤسسات الدولة.

وهذه أول خطوة تصحيحية مطلوبة هنا وسترتد إيجابا على بناء الدولة من جهة، وعلى الصيغة التنظيمية الداخلية لأنصار الله من جهة ثانية.

التنمية الاقتصادية

  • لا تقتصر الأزمة اليمنية على المشكلة السياسية، فالحالة الاقتصادية المتردية منذ عقود تفرض تحديا كبيرا في الحاضر والمستقبل، ما يجعل أي انجاز على صعيد إدارة الدولة ومؤسساتها، معرضا للفشل مع أي أزمة اقتصادية وإن كانت طفيفة.

وعليه، فإن بناء الدولة يتطلب رؤية اقتصادية للنهوض والتنمية يشترك في بلورتها خبراء الاقتصاد والاستثمار، ويسهم في تنفيذ مشاريعها المال الوطني، بالتوازي مع الجهد الشعبي التعاوني، الذي لا مناص منه في ظل الحرب والحصار والظروف الاستثنائية التي تعيشها اليمن.

التعليم أولاً

  • كل التجارب النهضوية المعاصرة اعتمدت على تطوير التعليم وربطه بسوق العمل مباشرة، وجعلت منه البوابة الرئيسة للترقي الوظيفي ونمو الطبقة الوسطى. وما يؤسف له أن الظروف الحالية، قد أثرت سلبا على حالة التعليم، وأوضاع المعلمين، وفاقمت من التدهور المريع في العملية التعليمية بمختلف مراحلها.

وإصلاح التعليم يتطلب العمل على مرحلتين، الأولى ذات طابع عاجل، وتتعلق بتأمين حقوق المعلمين، وتوفير مرتباتهم ( والتعامل مع التعليم كالجبهة العسكرية تماما). وفي المرحلة الثانية يتعين حشد الطاقات التربوية والتعليمية من أجل تجويد التعليم، والحد من كل المظاهر والاختلالات التي لحقت بقطاع التعليم في كافة المستويات.

استقلالية القضاء

  • تعزيز استقلالية القضاة وفصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية يتطلب الشروع في خطوات عملية، تؤدي إلى:

  • انتخاب المجلس الأعلى للقضاء.

  • إنشاء محكمة دستورية وانتخاب قضاتها.

  • تعزيز دور الشرطة القضائية وتمكينها من تنفيذ أحكام القضاء.

الحريات وحقوق الإنسان

  • من أجل دولة يسودها القانون واحترام حقوق الإنسان، يتعين البدء بإصلاحات جوهرية تتعلق بإيقاف الحجز التعسفي لأي مواطن واحترام الإجراءات القانونية التي تكفل حقوق وكرامة المواطنين.

وكان الرئيس الشهيد صالح الصماد قد شدد على هذه النقطة تحديدا ووجه بعدم اعتقال أي مواطن خارج القانون.

واتصالا بهذا التوجه، سيكون من اللازم إلغاء جهاز الأمن السياسي، الذي يقوم عمله على امتهان كرامة المواطنين وتقييد حرياتهم بالمخالفة للدستور والقانون، ومن اللافت أن عددا من قيادات الدولة اليوم، كانوا ضمن ضحايا هذا الجهاز، ومع ذلك لا زالوا يرون فيه ويتعاملون معه كمؤسسة (طبيعية) من مؤسسات الدولة.!

في هذا المحور من المهم التأكيد على حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير بشكل عام، فالإعلام الحر يمثل السلطة الرابعة في الدول الديمقراطية، أما الإعلام العام فهو ملك للشعب ولا ينبغي تسخيره لخدمة طرف سياسي على حساب بقية الأطراف.

والله ولي الهداية والتوفيق

 

عـبدالله عـلي صبري

عضو اللجنة الاستشارية الإعلامية

للمجلس السياسي الأعلى

سبتمبر2018م

قد يعجبك ايضا
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com