الحرب الإعلامية على اليمن وصراع القيم والإرادات

عبد الله علي صبري – رئيس اتحاد الاعلاميين .
مدخل
دخلت الحرب العدوانية على اليمن عامها السادس، على وقع جائحة كورونا، وأزمة النظام الدولي سياسيا واقتصاديا، وفشل التحالف السعودي عسكريا، في مقابل انتصارات نوعية للجيش اليمني، وتطور مضطرد في قوة الردع التي تعتمد على الصواريخ البالستية، والطيران المسير، وتنذر بما هو أشد وأنكى على السعودية ودول العدوان.
ومن يقارن ما كان عليه حال اليمن في 26 مارس 2015م، حين إعلان الحرب، وبين ما هو الحال اليوم في النصف الثاني من العام 2020م، يلحظ إلى أي مدى انساقت العقول التي باركت العدوان على اليمن في أحلامها المفرطة، وكيف غدا أصحابها اليوم على قارعة التيه والضلال، وقد تبخرت حربهم الإعلامية القذرة، وارتد كيدهم عليهم، وهم يتباكون على حالهم وقد انكشفت الحقائق المرة، وحقيقة أهداف ومطامع دول تحالف العدوان في اليمن، بعيدا عن اسطوانة “الشرعية” التي كانت عنوان وأساس الحرب الإعلامية على اليمن.
تسلط هذه الورقة الضوء على الإداء الإعلامي المصاحب للعدوان على اليمن، وحجم التعتيم والتضليل الذي رافق يوميات الحرب بهدف تغييب الحقيقة، بالاستفادة من التواطؤ الذي ظهر عليه ما يسمى بـ ” الإعلام الحر” في دول الغرب، ونكوصه عن مواكبة جرائم وانتهاكات تحالف العدوان. وفي المحور الثالث من هذه الورقة يتناول الباحث دور الإعلام الوطني والمقاوم في تفنيد الحملات الإعلامية للعدوان، والانتصار لقضية ومظلومية الشعب اليمني، وحتمية انتصار المقاومة.
أولا / مظاهر وأدوات الحرب الإعلامية على اليمن:
1. التضليل وشرعـنة العدوان:
تحتاج أي حرب قذرة إلى إعلام يماثلها، وهذا ما ينطبق على إعلام تحالف العدوان السعودي على اليمن، الذي انخرطت ماكنته في الدعاية للحرب والتدخل العسكري، تحت مبررات واهية، أمكن لوسائل إعلام التحالف تضخيمها وتقديمها كحقيقة دامغة لا تقبل الشك، وكل ذلك بهدف تجميل صورة التحالف، وشرعنة الحرب والتدخل العسكري في اليمن، والقبول بالأخطاء والتجاوزات وتبريرها. وطوال السنوات الماضية رأينا كيف اشتغل إعلام التحالف على متلازمة “الشرعية والانقلاب”، منتهجا الكذب والتضليل كأسلوب رئيس طغى على الرسالة الإعلامية التي أراد تقديمها، وحشد لها الكثير من المحللين السياسيين المخضرمين أو المستجدين باتجاه إقناع المتلقي أن ما يحدث في اليمن ليس إلا نتاج ” الانقلاب الحوثي ” على “الرئيس الشرعي”.
هكذا برزت قناتا “العربية” و”الحدث” السعوديتين وقد تكفلتا بدور محامي الشيطان واختراع شرعية لجرائم القتل العلنية التي تقوم بها صواريخ التحالف وغاراته الجوية، دون احترام للقواعد المهنية وإن في الحد الأدنى[ ]. وفي ذات الاتجاه عزف إعلام التحالف على نغمات متوازية، أعلت من شأن ” الشرعية ” مقابل” الانقلاب الحوثي “، ووظفت مفهوم ” الأمن القومي العربي ” في محاصرة ” المد الإيراني “، واستحضرت الصراع التاريخي بين “السنة” و” الشيعة “، وأطلقت العنان للمصطلحات الطائفية، في عملية قصف يومية للعقل اليمني، الذي توخت منه أن يساير التحالف في الحرب العدوانية على بلاده ومقدرات دولته.
2. تغييب الإعلام اليمني واستهداف منشآته:
بهدف التعتيم على حقيقة حرب اليمن، وما ارتكبه ويرتكبه تحالف العدوان من جرائم وانتهاكات جسيمة بحق المدنيين والبنية التحتية للشعب اليمني، عمد التحالف إلى محاصرة الإعلام اليمني، عبر حجب أهم القنوات التلفزيونية الرسمية والأهلية، حيث أوعز التحالف إلى إدارة شركة عربسات بإيقاف بث قناتي اليمن والمسيرة الفضائيتين، وكذلك فعلت إدارة شركة نايلسات. وأقدم التحالف على حجب الموقع الإليكتروني لوكالة سبأ الرسمية التي تعتبر أهم مصادر الأخبار في اليمن. وفي خطوات لاحقة وبعد أن أمكن لهذه الوسائل تجاوز الإجراءات والانتهاكات التعسفية لتحالف العدوان، اتجه التحالف وأدواته المنضوين تحت ما يسمى بالحكومة الشرعية، إلى استنساخ قناتي اليمن والمسيرة وموقع وكالة سبأ، وإدارة هذه الوسائل من داخل الأراضي السعودية.
وإمعانا منه في حربه على الإعلام اليمني ومؤسساته، تعمد التحالف استهداف المنشآت الإعلامية بالغارات الجوية، معرضا عن المعاهدات والقوانين الدولية التي توجب التعامل مع الإعلاميين والمؤسسات الإعلامية كأعيان مدنية لا يجوز استهدافها في زمن الحرب أو السلم على حد سواء. بل لقد جاهر الناطق السابق باسم التحالف أحمد عسيري، حين أعلن دون مواربة أن العدوان يتعامل مع المنشآت الإعلامية في اليمن كأهداف عسكرية [ ].
وبلغة الأرقام، وطوال خمس سنوات من العدوان، ارتكب التحالف السعودي عشرات الجرائم والانتهاكات بحق الصحفيين والإعلاميين في اليمن، حيث قتل نحو 45 إعلاميا يعملون في المؤسسات الإعلامية الوطنية، وأصيب 25 إعلامياً بجروح، ، واستهدف التحالف بغاراته الجوية 30 مركز إرسال وبث إذاعي وتلفزيوني، وتعرضت نحو 23 منشأة ومؤسسة إعلامية للتدمير الكلي والجزئي، إضافة إلى 6 حلات استنساخ لقنوات ومواقع إلكترونية، و8 حالات إيقاف بث لقنوات تلفزيونية، و7 حالات تشويش على هذه القنوات، وكذا 3 حالات اختراق لمواقع إلكترونية، وحالتا توقف لصحف رسمية، بالإضافة إلى إيقاف عشرات الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، تويتر، يوتيوب[ ].
كما أدى حظر السفر وإغلاق مطار صنعاء الدولي من قبل التحالف إلى الحيلولة دون سفر عشرات الصحفيين في الداخل، وحرمانهم من المشاركة في المؤتمرات والفعاليات الدولية، وذلك في إطار سياسة ممنهجة للعدوان استهدفت الحد من تأثير الرسالة الإعلامية الوطنية والإنسانية على الرأي العام الدولي.
3. شراء الولاءات وحشد المواقف:
لم يقتصر دور التحالف على الدعم السياسي والعسكري لمن يتخندقون في صف الحرب العدوانية على اليمن، لكنه اتجه إلى الـتأثير على الطرف الآخر وشراء الأصوات الإعلامية من داخل الصف الوطني المناهض للعدوان، وتمكين العشرات من الصحفيين للخروج من اليمن وتشغيلهم في الوسائل الإعلامية التابعة للتحالف، وتقديم العديد منهم كمحللين ومراقبين سياسيين. وفوق ذلك اهتمت قيادة التحالف ممثلة بالأسرة السعودية الحاكمة بشركات الدعاية في الغرب، فمولت العديد منها بهدف تلميع صورة ” العهد السلماني” والحرب التي يخوضها في اليمن.
وكجزء من استراتيجية حملة العلاقات العامة الدولية، اتجهت الرياض إلى مخاطبة الغرب بنحو مختلف، حيث تحاشت وسائل الإعلام السعودية الناطقة باللغة الإنجليزية، الخوض في الحجج الأيديولوجية والدينية من أجل شرعنة الحرب في اليمن، وركزت بدلا عن ذلك على الأبعاد السياسية والأمنية، والخطر الذي يتهدد المملكة جراء ما يحدث في اليمن بسبب الانقلاب على الشرعية، حسب زعمهم. ولهذا الغرض استغلت الرياض مكانة المقدسات الإسلامية في بلاد الحرمين، ووظفت الرموز الدينية بما يخدم أجندة الحرب، حتى إن إمام المسجد الحرام في مكة المكرمة لم يتورع عن دعم العدوان، واعتباره حربا بين السنة والشيعة، وقال: ” إن لم تكن طائفية جعلناها طائفية”[ ].
ولمعرفة كيف لاذ الإعلام الغربي بالصمت حيال العدوان على اليمن، كشفت صحيفة الأخبار اللبنانية عن دور لعبته شركات العلاقات العامة الدعاية الأمريكية الممولة سعوديا، والتي كان من مهامها التواصل مع صحف وقنوات تلفزيونية أميركية كبيرة، إضافة الى التواصل مع أعضاء في الكونغرس ومجلس النواب وأحزاب ومراكز أبحاث وحتى جماعات الضغط الاسرائيلية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تواصلت إحدى هذه الشركات مع مايكل بريجنت، الباحث في “معهد هادسون”، 7 مرات في شهر يناير2016م، وأربع مرات في شهر فبراير، ومرة واحدة في 20 إبريل، وهو اليوم نفسه الذي نشر فيه بريجنت” مقالة طويلة عنوانها: السعودية هي أعظم حليف لأميركا، امتدح فيها الرياض وحاول نفي تهمة الإرهاب عنها.
4. تمييع مجزرة الصالة الكبرى كنموذج للتضليل الإعلامي:
في الثامن من أكتوبر 2016م، خرج العالم عن صمته وهو يندد بجريمة الصالة الكبرى في اليمن، التي خلفت مئات القتلى والجرحى، بسبب غارة عدوانية استهدفت أكثر من ألفين شخص حضروا لتعزية آل الرويشان في وفاة أحد أقاربهم. ووجدت السعودية نفسها أمام غضب عالمي، دفعها إلى تبني استراتيجية تضليلية مخادعة، بدأت بإنكار الضلوع في الجريمة، ثم أوعزت إلى تنظيم داعش بتبني جريمة صالة الكبرى، وفي المقابل أوعزت إلى إعلام المرتزقة في الداخل إلى تبني أخبار وإشاعات تزعم أن تفجير الصالة جاء في إطار تفاقم الخلاف بين أنصار الله وأنصار صالح.
إلا أن حجم التنديد العالمي بالمجزرة، وامتلاك اليمن للأدلة الدامغة على ضلوع العدوان فيها، أرغم السعودية على الاعتراف بالجريمة، حيث بعثت عبر مندوبها في الأمم المتحدة برسالة إلى مجلس الأمن( 10-10-2016 م)، تضمنت العزاء والأسف، وفوضت نفسها بالتحقيق في الجريمة ورفع تقرير سريع بشأنها. وبعدها بخمسة أيام فقط، قال الفريق المشترك لتقييم الحوادث إن مركز توجيه العمليات الجوية في اليمن نفذ الغارة “بناء على معلومات من جهة تابعة لرئاسة هيئة الأركان العامة اليمنية تبين لاحقا أنها مغلوطة”[ ].!
بالموازاة عملت الدول الغربية على مساعدة السعودية للخروج من ورطتها، عبر تصريحات ومطالب ظاهرها الغضب والأسف، وباطنها امتصاص غضب الشعب اليمني، وتمييع الجريمة. ففي الأثناء ندد المتحدث باسم مجلس الأمن الوطني الأمريكي بالجريمة، وزعم أن ” الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية للمملكة العربية السعودية والتحالف الذي تقوده ليس شيكا على بياض “، حد تعبيره[ ]. ودعت بريطانيا وأمريكا إلى وقف إطلاق نار غير مشروط في اليمن، وتبخرت هذه الدعوة إلى هدنة لثلاثة أيام أعلن عنها المبعوث الأممي إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ في 18-10-2016م.
لم يتوقف التضليل والقفز على جريمة الصالة الكبرى عند هذا الحد، إذ عمد إعلام التحالف إلى صرف الأنظار باتجاه البحر الأحمر والخطر على الملاحة الدولية بعد أن زعمت واشنطن في 12-10-2016م، أن بارجة أمريكية تعرضت للاستهداف بالقرب من السواحل اليمنية. ولما لم تفلح هذه المحاولة، اتجهت السعودية وإعلامها إلى اختلاق كذبة كبيرة واتهام القوة الصاروخية باستهداف مكة المكرمة، في جريمة يوازي وقعها على المتلقي جريمة الصالة الكبرى، وما سبقها أو لحقها من جرائم بحق المدنيين في اليمن[ ].
ثانيا / الدم اليمني في بورصة الإعلام الدولي:
1. الحرب المنسية حتى حين:
انساقت وسائل الإعلام الغربية وكبريات الصحف البريطانية والأمريكية خلف الرواية السعودية للحرب على اليمن، وقاربت المشهد من زاوية داعمة لسردية التحالف المدعوم أمريكيا، وحتى عندما تكشفت الجرائم والانتهاكات المتوالية بحق المدنيين، وظهرت أصوات خجولة تدعو لإيقاف الحرب، وإغاثة اليمنيين، وحث أطراف الصراع على التفاوض والبحث عن حل سياسي، فقد لزمت الصحافة أو ” الإعلام الحر ” في الغرب الصمت المريب، حتى أطلق عليها البعض تسمية ” حرب اليمن المنسية ” ، من منطلق أن الرأي العام الدولي لم ينجذب إلى أحداث اليمن وما يعتمل على أرضها من ” كارثة إنسانية ” بفعل الحصار وهجمات التحالف.
وقد تنبهت هيلجا زيب-لاروش، مديرة معهد شيللر الدولي، للموقف الإعلامي في الغرب من حرب اليمن، فقالت في كلمتها المقدمة إلى مؤتمر برلين الذي عقد في 25 فبراير 2017م تحت شعار “جرائم الحرب المنسية في اليمن” : لم يفضح النفاق الذي لا يُحتمل لمن يسمى بـ “الغرب الحر” شيء سوى الامتناع عن التغطية الإعلامية لجرائم الحرب التي ترتكب يوميا ضد الشعب اليمني منذ عامين”[ ]. وتساءلت في ذات الكلمة: أين هم كل أنصار “التدخلات الإنسانية”، الذين يحرضون للحرب تلو الأخرى تحت ذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان، المبنية في حقيقة الأمر على الأكاذيب؟ أين هي التقارير الصحفية حول قصف مجالس العزاء والمستشفيات واستخدام القنابل العنقودية المحرم استخدامها دوليا وحول موت ما يزيد عن ألف طفل أسبوعيا، بسبب الأمراض التي بالإمكان الوقاية منها؟ أين هي الاحتجاجات ضد التدمير المنهجي للتراث الثقافي والإرث الإنساني العظيم؟.
2. مشاورات الكويت .. هدوء نسبي:
في إبريل 2016م، انطلقت مشاورات السلام اليمنية بدولة الكويت، وتحت رعاية الأمم المتحدة، وفي ظل توقف إطلاق النار بمختلف الجبهات إلا من خروقات محدودة هنا وهناك. وفرضت المشاورات تغطية إعلامية تنصب على القضايا الجدلية، وما تبذله الكويت من جهود لإنجاح المشاورات. وفي هذا الإطار برزت لغة إعلامية مختلفة نسبيا، إذ كان على وسائل الإعلام تهيئة الرأي العام لما بعد المفاوضات، وقبول الأطراف اليمنية ببعضها كشركاء في بناء اليمن.
ولأول مرة منذ ظهور حركة أنصار الله في اليمن، ومنذ بدء العدوان السعودي، أمكن للقيادات السياسية والإعلامية ” الحوثية ” مخاطبة الرأي العام العربي عبر وسائل إعلامية كانت إلى ما قبل انطلاق المشاورات تصفهم بالمليشيات والأدوات الإيرانية. فمثلا أطلت صحيفة الجريدة الكويتية على جمهورها صبيحة الثلاثاء 17 مايو 2016م، بمانشيت عريض، عنوانه: أنصار الله: لا سلام في اليمن دون تفاهم مع السعودية. وظهرت إلى جوار العنوان صورة رئيس الوفد الوطني محمد عبدالسلام، مع عناوين أخرى للحوار الذي أجرته الصحيفة مع من أسمته رئيس وفد جماعة أنصار الله، ونشر في ذات العدد[ ].
3. المدخل الإنساني و “عين بثينة “:
مع إعلان الأمم المتحدة أن اليمن تشهد أكبر كارثة إنسانية في العالم بفعل الإنسان، كان على كبريات وسائل الإعلام الغربي أن تعالج حضورها المتأخر في اليمن، بتكثيف التغطية الإعلامية عن المأساة الإنسانية في اليمن. وإذا كانت المنظمة الدولية قد رفعت من صوتها ، فإنما بهدف ابتزاز التحالف السعودي وجلب المزيد من الدعم المالي لأنشطتها والمنظمات التابعة لها في اليمن، ( علما أن الجزء الأكبر من الدعم الأممي يذهب في نفقات تشغيلية ورواتب ضخمة لكبار موظفي الأمم المتحدة في اليمن وعلى رأسهم المبعوث الأممي ).
ولأن تحريك الرأي العام في الغرب، يتطلب المزيد من تسليط الأضواء على معاناة الأطفال في اليمن، فإن جرائم التحالف السعودي تكفلت بالمهمة، حين تعمد طيرانها استهداف منزل أسرة الطفلة بثينة الريمي بالعاصمة صنعاء، في جريمة إبادة مضافة للسجل السعودي الأسود في اليمن، فقد طافت صورة بثينة – وهي الطفلة الناجية الوحيدة من آثار الغارة الجوية- معظم الوسائل الإعلامية والغربية، باعتبارها رمزا ودليلا على مأساة الحرب في اليمن[ ].
المجاعة المتصاعدة هي الأخرى كانت مدخلا إنسانيا لتعاطى الصحافة الغربية مع جرائم السعودية وحربها على اليمن، وقد انفردت صحيفة ” نيويورك تايمز ” بنشر تقرير هام عن مأساة اليمن بفعل العدوان السعودي، مع صور حصرية ومأساوية لحالة المجاعة التي تفتك بحياة الأطفال في اليمن، وبينهم الطفلة أمل حسين ذات السبع سنوات التي قال التقرير أنها لفظت أنفاسها الأخيرة بسبب الجوع[ ]. وحظي التقرير والصور المصاحبة له باهتمام كبير لدى مختلف وسائل الإعلام الدولية، التي طالب كتابها بإيقاف الحرب المدمرة في اليمن.
وكان لافتا في تقرير الصحيفة الأمريكية إشارتها إلى تزايد الانتقادات للحرب التي تقودها السعودية، والضربات الجوية التي أسفرت عن مقتل آلاف المدنيين في حفلات الزواج والمآتم وباصات نقل الطلاب، تلك الضربات المنفذة بالقنابل والاستخبارات التي تحصل عليها السعودية من الولايات المتحدة، كما ذكر التقرير بالنص.
4. أزمة خاشقجي والضمير الإعلامي:
فجرت أزمة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي بتلك الطريقة البشعة موجة سخط سياسية وإعلامية اجتاحت الكثير من دول العالم، الأمر الذي سمح بمزيد من تسليط الأضواء على جرائم النظام السعودي بحق الإنسانية في اليمن، والمطالبة بإيقاف حرب اليمن والمأساة الإنسانية الناجمة عنها. فقد تصاعدت حدة المواقف السياسية المناهضة لحرب اليمن، وتصاعد معها الاهتمام الإعلامي باليمن، الذي تصدر نشرات الأخبار ومحادثات المسؤولين والقادة الغرب على عكس التجاهل الذي كان سائدا قبل عملية الاغتيال، كما أن المبادرات والقرارات التي اتخذت من بعض البلدان الأوروبية والمؤسسات الدولية، أكدت أن تغييراً واضحاً كان السبب فيه مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي بات يسيطر على كافة القوى الدولية تجاه الأزمة اليمنية، ومن ذلك إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وتأكيده أن قضية مقتل خاشقجي يمكن أن تتيح فرصة لإيجاد حل سياسي للحرب في اليمن[ ].
وللتخفيف من الضغوط الكبيرة التي واجهت النظام السعودي وجعلته محشورا في زاوية حرجة، بادرت الإدارة الأمريكية لطرح أفكار تتعلق بالسلام في اليمن، وحظيت هذه الأفكار بترحيب غربي في فرنسا وبريطانيا والأمم المتحدة، بل وحظيت بترحيب من طرف صنعاء وحكومة الإنقاذ، مع التحفظ على بعض مضامينها المخادعة. ففي 30 أكتوبر 2018م، دعا وزير الخارجية الأمريكي مايكل بومبيو جميع الأطراف إلى دعم المبعوث الأممي في إيجاد حـل سلمي للصراع في اليمن، استنادا إلى المراجع المتفق عليها. وقال في بيان صحفي: لقد حان الوقت الآن لوقف الأعمال العدائية، بما في ذلك الهَجَمات الصاروخية والطائرات بدون طيار على المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. مضيفا: في وقت لاحق يجب أن تتوقف الضربات الجوية للتحالف في جميع المناطق المأهولة بالسكان في اليمن[ ].
في الأخير فقد أدت هذه الضغوط إلى جمع الأطراف اليمنية بدولة السويد، والتوصل إلى اتفاق ستوكهولم، الذي وضع حدا للحرب حول مدينة الحديدة، وفتح آفاقا لإمكانية انجاز اتفاق سياسي أشمل، الأمر الذي ترجمته وسائل الإعلام في نشراتها وفي الكتابات والتقارير والاستضافات التي ركزت على المشهد اليمني، وساعدت على صرف الأنظار عن قضية مقتل خاشقجي وتداعياتها على الداخل السعودي.
ثالثا / الإعلام الوطني والمقاوم في قلب المعركة:
1. حرب القيم والمصطلحات:
أشرنا قبلا إلى التضليل الذي تعمده إعلام العدوان في تغطية الحرب على اليمن، وكيف أقحم التحالف عددا من المصطلحات التي تشرعن للتدخل العسكري السعودي في اليمن، بغض النظر عن الانتهاكات والجرائم التي يرتكبها التحالف بحق اليمن أرضا وإنسانا. إلا أن حرب المصطلحات هذه إنما عكست انحطاطا متأصلا لدى النظام السعودي ومن تحالف معه من دول وقوى ومرتزقة، فالقتل والإجرام غدا فعلا مباحا ما دام الضحية ينتمي إلى ” انقلابيين ” أو ” مجوس ” و ” رافضة “، حسب الدعاية الإعلامية. وكذلك الأمر بالنسبة لاستباحة الأوطان، ما دام أن ” الرئيس الشرعي ” حسب وصفهم، هو الذي طلب تدخل الجيران عسكريا لـ ” إنقاذ” اليمن. أما مرتزقة العدوان من القوى المحلية اليمنية، فقد استخدموا مصطلح ” المقاومة ” للتغطية على عمالتهم وخيانتهم. ونادي مناديهم بـ ” حي على الجهاد ” لمواجهة الشريك في الوطن، وأمام تدخل العدو الخارجي رفع غالبيتهم لافتة ” شكرا سلمان “..!
لكن على المقلب الآخر، استنفرت القوى الوطنية، بدعوة من السيد عبدالملك الحوثي، كل إمكاناتها في مواجهة العدوان السعودي، وهو المصطلح الذي اتفقت عليه بيانات القوى والأحزاب السياسية المناهضة للعدوان ثم أضيفت إليه عبارة الأمريكي، بعد أن اتضح الدعم الجلي الأمريكي للسعودية في حربها على اليمن، وهكذا اشتغل الإعلام الوطني على مصطلح ” العدوان السعودي الأمريكي “، واكتسب مصطلح العدوان مدلولا شرعيا وقانونيا وأخلاقيا، فاليمنيون إنما يردون على العدوان بمثله، وهذا متفق عليه لدى كل الشرائع وفي القوانين الدولية، وبل ومتأصل في الفطرة الإنسانية. واتصالا بهذه القيمة فإن المقاتل اليمني لم يستهدف المدنيين أو الأعيان المدنية في السعودية أو في مختلف الجبهات، على مدى الست السنوات الماضية، ما منح اليمن تفوقا أخلاقيا، كان خير زاد للتغطية الإعلامية المصاحبة للحرب.
اشتغل الإعلام الوطني أيضا على مصطلحات ذات قيمة إنسانية وإسلامية، كالصمود والثبات والصبر الاستراتيجي في مواجهة العدوان والحصار، وحين دخلت القوات الغازية السعودية والإماراتية إلى عدد من المحافظات الجنوبية، أطلق عليها العدوان مصطلح ” الاحتلال ” الذي يستدعي ” المقاومة “. وركز الإعلام الوطني على تاريخ اليمن في مواجهة الاحتلال والغزو الأجنبي طوال التاريخ حتى عرفت اليمن بـ ” مقبرة الغزاة “، كعنوان للهوية “اليمانية” المتجذرة.
الهوية “الإيمانية” كانت حاضرة هي الأخرى، فمفردة ” التوكل على الله ” و ” حسبنا الله ونعم الوكيل ” كانت المشترك بين الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي في التعليق على المآسي والجرائم التي يرتكبها التحالف، أما حين يتمكن الجيش اليمني من خصومه بضربات موجعة، فإن المبتهجين لا ينسون معادلة ” هو الله “، التي غدت عنوانا لكل عملية عسكرية نوعية.
في التفوق الأخلاقي أيضا سلط الإعلام الوطني الضوء على المشاهد الإنسانية التي يسجلها الأبطال في الجبهات، وهم يتعاملون مع أسرى العدو من منطلق إسلامي وإنساني، وكذلك التعامل مع جرحى العدو، واستقبال كل من يتعاطى إيجابيا مع قرار ” العفو”، الصادر عن المجلس السياسي الأعلى. لكن على العكس من ذلك، فإن العدو السعودي ومرتزقته ضربوا بكل القيم والأعراف عرض الحائط، وقدموا أنفسهم كمجرمي حرب لا يكفون عن استهداف المدنيين، وقتل الأسرى، والإجهاز على الجرحى، وترويع النساء، والثأر من الآمنين، كما حدث لعدد من الأسرى الذين أعدمهم تنظيم القاعدة بتاريخ 5 ديسمبر 2015م على نحو متوحش في عملية أسماها ” ثأر الكماة “[ ]. وكذلك تلك الجريمة المروعة التي ارتكبها مرتزقة العدوان في يوليو 2016م بحق سكان قرية ” الصراري ” في محافظة تعز، حين قتلوا العشرات منهم سلخا وسحلا وإعداما[ ].

2. الإعلام المقاوم وصراع الإرادات:

لا يمكن فصل دور الإعلام العربي والإسلامي المقاوم في مساندة القضية اليمنية، عن الدور المحوري الذي يلعبه إعلام المقاومة في مواجهة المشروع الصهيوأمريكي ومخططات تصفية القضية الفلسطينية. فما إن باشرت السعودية عدوانها العسكري على اليمن، حتى بادرت وسائل إعلام المقاومة الرئيسة ( العالم، المنار، الميادين)، إلى تغطية عمليات ما يسمى بـ ” عاصفة الحزم ” بشكل مكثف على مستوى النشرات الإخبارية والبرامج السياسية والميدانية، وقدم إعلام المقاومة صورة مغايرة لما كان سائدا في الإعلام العربي الممول سعوديا وخليجيا، وأمكن لصوت اليمن أن ينطلق عبر أثير هذه القنوات وغيرها من وسائل إعلامية رديفة لها.

وإضافة إلى التغطية الاخبارية، فإن فضائيات وإذاعات تابعة لمحور المقاومة، أطلقت برامج جديدة خاصة بالملف اليمني، فقد خصصت قناة نبأ الفضائية برنامجا أسبوعيا تحت مسمى ” عاصفة الوهم “، وبالمثل أطلقت قناة العهد برنامجا أسبوعيا تحت مسمى ” يمن الصمود “، وكذلك فعلت إذاعتي طهران والنور. وعلى صعيد الصحافة المكتوبة والإلكترونية، كانت صحيفة الأخبار اللبنانية عين العالم العربي على اليمن بتقاريرها ومقالاتها ومتابعتها لكل جديد، يليها صحيفة النبأ اللبنانية، وكيهان الإيرانية، وصحيفة رأي اليوم الإليكترونية، وموقعي العهد والوقت التحليلي.

كما اشتركت عدة فضائيات محسوبة على الإعلام المقاوم ولأكثر من مرة في بث مشترك عن اليمن ومستجدات العدوان والصمود، وكان لمثل هذه الحملات أثرها الكبير في التعريف بجرائم وانتهاكات التحالف السعودي، وفي الحد من التضليل الإعلامي المصاحب لهذه الحرب.

ساعد على ذلك الحضور المتميز للسيد حسن نصر الله برمزيته المعروفة في محور المقاومة، فكانت كلماته وخطاباته المتضامنة مع الشعب اليمني خير وقود للإعلام الوطني والمقاوم، وشكلت بلسما للجراح والنفوس، ورسمت بعمقها وصدقيتها وحرارة تضامنها، محورية دور اليمن في معادلة “صراع الإرادات”، ومعالم الانتصار المنتظر.

قد يعجبك ايضا
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com